Skip to content

Cart

Your cart is empty

Article: AL MADA

AL MADA

AL MADA

نوستـوس"المعـمار

والدهر يومان مذموم وممتدح
والناس اثنان ممنوح ومسلوب
أسارع القول بأن كلمة "نوستوس"، التي استخدمها معاذ الآلوسي، المعمار العراقي المعروف، عنوانا لكتابه الجديد، هي ".. كلمة يونانية قديمة، تعني الحنين الى مسقط الرأس، أو الوِطان بكلمة عربية عبقرية واحدة.."،

كما كتب هو، في آخر صفحة من كتابه "نوستوس: حكاية شارع في بغداد"، الصادر عن منشورات الرمال، قبرص، والمطبوع في عمان/ الأردن، سنة 2012؛ (350 صفحة).


تُقرأ الكتب ببواعث عديدة، هي التي تُؤلف، أيضاً، لبواعث عديدة. ومن ضمن تلك "العديدة"، قد يكون الحصول على ثمة فائدة، أو متعة أو معرفة. أوقد تكون بدوافع النصح او الشكوى او الاعترافات. لكن باعث "نوستوس": تأليفاً وقراءة، يمكن أن يكون كل هذا؛ رغم أن المؤلف "يصر" على تذكيرنا <بحزمه> منذ البداية، ألا يكتب سيرة شخصية، "..وألا اجعل من حياتي رواية." (ص. 7). ومع هذا ، فنحن، إزاء نص ممتع وجميل، وغني في التفاصيل، وحافل بالمعرفة، وبالشكوى، وبالنصح وبالاعترافات! أنه نص صادق، وصدقيته "غاصة" بالشفافية، ومترعة بالإخلاص. وعلى المتلقي، تبعاً لذلك، أن "يتلقى" مقولات الكاتب بأريحية، سواء تعاطف مع رأيه ام لا. نحن، اذاً، بصدد سرد، يتبدى لي بأنه مؤلم، وألمه موجع (هل أقول فاجعا؟)، لجهة آمال لم تتحقق، في بلد كنا نشعر، نحن إنباء الطبقة الوسطى، بأنه "بلدنا"، وبالتالي معنيون في تحقيق نموه ونجاحه، والتقليل، جهد الإمكان، من عثراته. لكن ذلك بدا، وكما هو واضح في سرديات الكتاب، لم يكن أمراً سهلاً، كما لم يكن أمراً متاحاً. أيها الأصدقاء الأعزاء، قراء مقالي هذا، يسرني أن أقدم لكم نص صديقي وزميلي العزيز المعمار: معاذ الالوسي (1938)، وكتابه "نوستوس"؛ وهي ذاتها <حكاية عن شارع في بغداد>، متضمنة (الحكاية إياها)، أصناف من الحب، والإخلاص، والزمالة، وتحضر فيها العمارة والكفاءة، واللوعة والحنين، وطبعا "الآمال المجهضة"، بحسب كلمات صديق، ومعمار آخر!.


عندما نشرت دراستي، قبل فترة (حزيران 2008)، عن عمارة معاذ الآلوسي، بمناسبة بلوغه السبعين؛ حاولت أن أتقصى عن عبارة "تختزل" مساره المعماري، وتكشف بوضوح عن خصوصية منتج ذلك المسار. وقد وجدت أن معاذاً، وإن انتمى إلى الجيل الثالث من المعماريين العراقيين (الجيل الأول: هو المؤسس، وينتمي إلى عقد الثلاثينيات؛ والجيل الثاني، هم معماريو الخمسينيات)، إلا أن معماريي جيله، ظلوا بعيدين عن المشهد، ولم يؤثروا فيه تأثيرا كبيراً يتناسب مع عددهم ومؤهلاتهم وكفاءاتهم. إذ لعبت الظروف المحيطة وقتذاك دورها السلبي، في إبعاد وتشتت الكثيرين منهم. وبالتالي فقد أضاع العراق، بغيابهم، فرصاً كثيرة، كان يمكن لها أن تثري الخطاب المعماري المحلي، بنماذج تصميمية مميزة. على أن هذا "الغياب"، قابله من ناحية أخرى، "حضور" مؤثر وغزير لمنتج معاذ الآلوسي. وكأنه، نشد أن تكون تلك الغزارة، تعويضاً لجيل بأكمله: جيله المنسي، وزملاؤه الذين تفرقوا أيدي سبأ!. ومن هنا، كان عنوان الدراسة إياها: <غياب الجبل الثالث... وحضوره>. إذ وجدت في تلك المفارقة "الباردوكسية" Paradox، وصفاً لوضع، موهم للتناقض، بيد انه بدا لي صحيحا! أو هكذا رغبت أن اعبر عن طبيعة وأهمية عمارة معاذ. لكن "القدر" الذي وسم جيل معاذ الآلوسي، بالتغييب والترحال، شاء أن "يشرك" مصير معاذ نفسه، بتلك "اللعبة" (اللعنة؟)" غير المفهومة، (وغير المبررة إطلاقا!)، التي ما برحت تعمل عملها بنشاط، "مانحة" لكل واحد من معماريي البلد ومثقفيه، <أدويسته>Odyssey ، ونصيبه من تجوال طويل وأسفار لا تنتهي، لكنهم بقوا حالمين بالرجوع الى تلك الأمكنة، التي كانت يوماً ما، سبباً لتشتتهم وتفرقهم وتجوالهم الأبدي، او بالأحرى" تغربهم الأبدي"، كما يكتب معاذ الآلوسي نفسه في كتابه (ص.333) الذي يقرأ، بكونه وصفاً لحالة من وطان شديد الوجع، يرتقي لان يكون "نوستوس" مؤثرا، ما انفك يتقاسم "لذة" مرارته كثر من جيل معاذ الآلوسي ..وآخرون أيضاً!


يتشكل كتاب "نوستوس" من إحدى عشرة "فاصلة". إنها محطات هامة في مسار حياة المؤلف، التي يرى بأنها تستحق التوقف عندها، ومواضيعها جديرة بفتح حوار مع قارئ الكتاب. ولكونه معماراً (أراه، شخصيا، معماراً مميزاً)، فإن "درب" حياته قد اصطبغ تماماً بسلوكية تلك المهنة، التي قال عنها، مرة، "لوكوربوزيه" <من أننا نخلق العمارة ..لتخلقنا، هي من جديد!>. نقرأ فواصل الكتاب: البداية؛ المنهل؛ أولى الممارسة المهنية؛ الهجرة الأولى؛ أثينا؛ شارع حيفا - بغداد؛ صوب الكرخ؛ ضمن الدرب خارج الكرخ؛ جامع الدولة الكبير؛ في عموم الدرب؛ التغريب الأبدي. ومن خلال تلك الفواصل/ المحطات، سنتابع مع المؤلف، درب المهنة، وهو درب الحياة لمعمار مجدّ، له بصمات واضحة في المشهد المعماري المحلي، والإقليمي، وحتى الدولي. سيتم التعاطي مع نصوص الكتاب، ليس بكونها تركيزاً عن طبيعة المنجز المعماري المنتج ونوعيته، هو الذي جعل المؤلف من حضوره خلفيةً لقول ما يختلج في نفسه، وإنما سيكون ثمة إصغاء لحديث مثقف عراقي، نال بسبب مهنته، كما نال كثر من العراقيين بسبب مهنتهم (ومهنيتهم ايضا)، ضروباً من الإجحاف والمظالم والقسوة وعدم الاهتمام، (وخصوصا عدم الاهتمام!)، من لدن مسؤولين، قُدر لهم أن يكونوا، بغفلة، أصحاب قرار.


"يبني" المؤلف (والكلمات، هنا، دائما ..معمارية!)، كتابه على سردية أساسية، هي بمثابة "أغنية البجعة" في مساره المهني. إنها الحدث الرئيس المشكل لمتن الكتاب. انها في الاخير، "حكاية شارع في بغداد" تمثيلا لدرب، اراد به معاذ ان يكون ملتقيا ومتفرعا "لدروب" عديدة أخرى، ستشكل لاحقا طريقة حياته، وترسم مساره المهني، وتحدد نوعية اهتماماته. وستجبره تلك الدروب، في ما بعد، على تحمل تبعاتها، ونتائجها المفجعة، هو الذي سيخوض غمار مسارها الطويل، ويكابد عذاباتها المضنية. سأتحدث، بالطبع، عن ذلك الشارع/ الدرب، الذي اعتبره مؤلف كتاب "نوستوس"، أنشودة له، ولانجازاته التي تحققت، وحنينه إليه وولعه به. لكن قبل هذا، أود أن أشير الى ما تحدث عنه معاذ الآلوسي، وهو "يسرد" مساره المعماري الأول، عندما يكتب ".. أصدرنا وصديقي ياسر حكمت عبد المجيد، أول مجلة معمارية <ننار> (وتعني: إله القمر، ومركز عبادته مدينة أور). عدد يتيم، صممه وطبعه تبرعاً الفنان الصديق ناظم رمزي. في مطبعته جرت إضافة الألف واللام ليصبح اسمها <الننار>" (ص. 49). إذ من هذه المجلة ذاتها، تعرفت لأول مرة (أنا العائد تواً من موسكو، بعد رحلتي الدراسية ، والمشبع بذائقة معمارية نقدية مختلفة، والتائق الى بحث موضوع، يمكن من خلاله أن أطبق منهجيات تلك الذائقة النقدية المختلفة)، تعرفت الى أسماء المعماريين الذين عملوا وأنتجوا الروائع المعمارية العراقية وقتذاك. وهي إمساء لم تكن معروفة تماماً لدى معظم المثقفين، وحتى للكثير من المعماريين، كما لم يهتم احد بمآل تلك المشاريع وتبيان أهميتها التصميمية. وإذ اعترف بان تلك المقالة الشيقة والغنية بالمعلومات والأسماء التي سوف يشير إليها، مرة أخرى، معاذ في كتابه "... لقد كتبت بحثاً سريعا لمجموعة هذه الأبنية (مباني دائرة الأشغال العامة. خ.س)، ومهندسيها نشر في مجلة ننار المعمارية في عددها الوحيد في كانون أول 1966" (ص.70)؛ كانت، من بين دوافع أخرى، نبهتني إلى موضوع عمارة الحداثة في العراق، الموضوع الذي سيصبح الأثير لدي، هو الذي، ما انفكيت، أجد نفسي متعلقاً به، ومحباً له، وقارئاً فيه، ومحاضراً عنه لطلبة عديدين على مدى عقود.


والآن، حان الوقت للحديث عن <الشارع>. ستقولون، ما "حكاية" هذا الشارع، الذي "خبصتنا" به؟! حقكم عليّ، أيها الأصدقاء، لأني وجدت أن "الثيمة" الاساسية لكتاب "نوستوس"، كما أرادها معاذ، متمثلة بوضوح في هذا الشارع تحديدا. يعتبره معاذ ليس شارعا عاديا، وإنما "درب" حياة: منه واليه تتجمع وتتفرق دروب المعمار الذي يسرد أمامنا بشفافية، ولعه وحنينه وألمه، وذكريات نجاحاته وإخفاقاته التي شهدها ذلك الشارع العتيد. لا "أطولها" عليكم: انه <شارع حيفا في صوب كرخ بغداد>. هو الذي يتوق معاذ أن يجعل من حكايته: حكاية لا تنتهي إلا وتبدأ حكاية أخرى.


ليس في نيتي، بالطبع، أن أُعيد مضامين تلك الفاصلة/ المحطة، من متن الكتاب، ومن عمر الكاتب. عليكم أنتم، أيها القراء الأعزاء، أن تتطلعوا، بأنفسكم، عليها، لتدركوا مدى أهمية ومهنية، وصدقية، ما كتبه معاذ الآلوسي. والاهم تلمس مقدار عمق الإحاطة بشؤون هذا الشارع، وتعاطفه مع ناسه، وتاريخه، و"بيئته". وكيف لا يشعر المتلقي بحميمية وألفة كلماته، التي سجلها في كتابه، حينما يفصح عن عواطفه للمنطقة وشارعها، عندما يكتب ".. مع توفر الاندفاع نظراً للإحساس الفريد نحو المنطقة والمدينة، ولاسيما المنطقة، فهي سكن الأم حتى زواجها وانتقالها إلى الصوب الثاني الرصافة. الكرخ كانت سكن الخال حتى وفاته، موقع إحدى الآبار الأولى والمناهل الثرة" (ص. 158). لقد افرد الكاتب لهذه الفاصلة، صفحات كثيرة. وإذا أضفنا ما تحدث عنه في فاصلة "صوب الكرخ"، المتممة لموضوعة "شارع حيفا"، فسيكون ثلث الكتاب مكرسا لتلك الثيمة القريبة إلى قلب المعمار. وأتساءل، عن مآلات الشارع وقضايا تعميره، في ما إذا لم يكن "معمار" مسؤول عن إشراف ذلك التعمير، وإذا لم يكن "معاذ"، ذلك المعمار المسؤول؟. أقول هذا ليس بدافع "التحيز" المهني، وإنما إدراكاً لمهنة "العمارة" (هي التي وصفها الإغريق القدامى عن حق، بأم الفنون!)، والتي تستوجب لاتخاذ قرار مهني صائب فيها، التعاطي مع معارف ومعلومات شتى، ليس فقط هندسية او عمرانية، بل وسيسولوجية وتاريخية واقتصادية وبيئية وثقافية عامة بالإضافة الى السياسية بالطبع.


يتحدث معاذ الآلوسي عن حكاية "تعمير" شارع حيفا، ليس بكونه امراً عادياً: عملاً مهنياً صرفاً، يتعين القيام به، وتحقيق ما هو مطلوب منه كمعمار وكمخطط. ذلك لان طبيعة الشارع وموقعه وخلفياته، وغياب المعلومات الضرورية عنه، مترادفاً لغياب المعايير التخطيطية الموجهة للتعمير؛ فضلاً عن ما سيتحصل عنه من مشاكل مستقبلاً، جراء عملية التعمير، وتبعات ذلك على الحي، وعلى "الصوب" وعلى المدينة ككل، جميعا كانت أمور غائبة ومقلقة، وسيؤثر غيابها لا محالة، سلباً، على نوعية القرارات العمرانية والمعمارية المتخذة، وستؤدي إلى ثلب صدقيتها. والى ذلك كله، تضاف طريقة التكليف، وفترة الانجاز، وطبيعة أجواء العمل وخصوصيتها، التي ستجري إبانها عملية التعمير، وهي أجواء "حربية" بامتياز، يشم منها روائح الخراب والتدمير والهدم والهلاك، ممزوجاً بنزعات التسلط والضغينة وكره الآخر، وأصناف جمة من "تنويعات" اللامعقول "الزاخرة" بها عادة، الأنظمة الشمولية. إنها، باختصار، "مناخات" الحرب العراقية - الإيرانية: زمن الثمانينات!


وفكرة" التعمير" نجمت عن "بواعث" بعيدة عن متطلبات التخطيط الأساسي للمدينة، بل ويمكن أن أقول بأنها غريبة عنها، وحتى طارئة عليها بكل معنى تلك الكلمة وما تشي به من دلالات. إذ رغب حاكم العراق الأول وقتها (هل قلت "الأول"؟ لقد جعل من نفسه الحاكم الوحيد الأوحد: لا مثيل له، ولا .. شريك له! يسميه معاذ: "الأخ الأكبر"، تشبهاً ببطل رواية <1984> لجورج اورويل المعروفة!)، أن تكون "عاصمته" مدينة لائقة جمالياً لانعقاد مؤتمر دول عدم الانحياز فيها وتسميته (هو الذي استلم منصبه الرئاسي الجديد في بلده، قبل فترة زمنية قصيرة)، "برئيس دول عدم الانحياز" كلها. ولهذا تم اختيار الشارع إياه، الذي ركن تخطيطه وتعميره لسنوات عديدة، منذ إعداد المخطط الأساسي للعاصمة في الستينات؛ ليكون احد ميادين التجديد والتجميل للأعمال التطويرية القادمة؛ التي امر بإجرائها "الأخ الكبير" إياه. " الكبير أعطى أوامره ومشى. ولا يوجد "زلمة" واحد قادر على عدم التأييد والتنفيذ، ناهيك عن الاعتراض"، كما كتب معاذ في كتابه (ص. 166). وعلى عجل تم تأليف لجنة استشارية لمتابعة إجراءات العمل التخطيطي - التجميلي وبصلاحيات واسعة. وعلى عجل أيضا، تم تكليف المعمار العراقي المعروف رفعة الجادرجي لتسميته بـ"المستشار" لهذه اللجنة، بعد أن أخرج من السجن، الذي قبع في "ظلمته" لسنين بتهم، تبين بأنها ملفقة.

 

معمار وأكاديمي

 

ثمة متعة كبيرة يمنحها معاذ الآلوسي لقراء كتابه. وهو يتابع شؤون عمله كاستشاري للمشروع لسنوات عديدة. انه يسرد حكاياه بشفافية عالية عن شارع حيفا، الحكايا المنظورة منها والمخفية. ويصطحبنا معه في تجواله اليومي، ليعرفنا بشخوص "شارعه" وأبطاله المدعيين. وتبدو حكاياه في جانب من وقائعها غرائبية، وأحياناً خارج ..

 

المعقول، نظرا لبؤس وتعاسة معيشة بعض سكنة الشارع وشقائهم المرير، الذي، مع الأسف، لا احد يكترث به. (أحيل القراء إلى صفحة 203 من الكتاب، كمثال لإحدى هذه الحالات الصادمة). وهو وإن بدا مؤهلا استشاريا للمشروع المقترح، فانه ظل متوجسا من إتمام عمله بالصيغة التي يطمح إليها. ذلك لان المهمة لم تكن سهلة، ولا مجال هنا للخطأ، خصوصا الخطأ الحاصل منه تحديدا".. إن اشتراكي في تشويه محلات الأجداد، سيجعل عظامهم تتحرك في لحودهم بتربية الشيخ جنيد، التي لا تبعد عن موقع المشروع إلا قليلاً" (ص.164).


لقد كتب عن شارع حيفا العديد من المهنيين والكثير من المثقفين المهتمين أيضا. فظهور شارع جديد بُبنى جديدة في نسيج حضري معين، يمتلك خصوصيته وتراثه، هو موضوع لطالما حرك مشاعر متناقضة، مثيراً اهتماما كبيراً، وسجالاً واسعا بين الناس. لكنه يبقى، في كل الأحوال، موضوعاً مؤلماً وموجعاً، لجهة حراك فعله "المدمر"، وظهور نتائج ذلك الحراك بصورة مباغتة وسريعة. ورغم إجماع عدد كبير من الناس، على أهمية فعالية التطوير والتجديد لمدنهم وأحيائهم، فقد يجد البعض فيها "ثيمة" تحتمل الرفض والنكران، وبالتالي يمكن إعادة إنتاج السجال حولها، وحول صدقية قراراتها، المفضية إلى ظهور التجديد في بيئة قديمة. إنها، في الواقع، إشكالية شائكة ومخاتلة في آن، فهي بظهورها في المشهد، تفصح عن ازدواجية المعايير والرغبات المتناقضة المكبوتة لدى كثر. فالغالبية تنزع إلى حدث التغيير والتجديد، بيد أن تلك الغالبية ذاتها وفي نفس الوقت، تلعن ذلك الحدث "كلاماً"، ولكن من دون "التفريط" بايجابيات التغيير والتجديد. وبسبب طبيعتها "المخاتلة" تلك، فقد استغل بعض المهنيين تلك الحالة، لجعل من وقائعها "مناحة" حقيقية في البكاء على الإطلال! فنحن، على سبيل المثال، ما برحنا حتى الساعة، نقرأ مقالات و"أبحاث" تصب سيلاً من "اللعنات" على رأس البارون "هوسمان"، لجهة تجرؤه على "تهديم" باريس القديمة. (وللتذكير فان البارون هوسمان 1809-1891 G-E. Haussmann ، هو الذي نفذ مشروعه الطموح في تجديد باريس وإنشاء سلسلة من الجادات "البولفارات" العريضة، في منتصف القرن التاسع عشر، بأمر من نابليون الثالث. ويقال، وللتذكير أيضاً، فان هوسمان أجرى "تفليش" حوالي 60% من البنى المبنية الباريسية وقتذاك، لتحقيق قراراته العمرانية إياها!). ولماذا الذهاب بعيداً، ونحن نمتلك، أيضاً، "ازدواجيتنا" المحلية الأثيرة. فما زال البعض منا، لحين الوقت الحاضر، يدين قرار حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني فيها "خليل باشا" ويلعنه "لشق" في سنة 1910 شارع الرشيد الحالي. لكن هذا البعض ذاته، لا يرى غضاضة، بتاتاً، في إبداء "عشقه" للشارع والمناداة بالحفاظ عليه! والأمر ذاته، تكرر عند شق شوارع عديدة، وانسحبت تلك الازدواجية بالطبع، على شارع حيفا. وقد آن الأوان، في اعتقادي، أن يذكر باحترام وتبجيل جميع أسماء العاملين الذين ساهموا في إنشاء شارع حيفا الحالي، والاحتفاء بهم وتقديرهم، لهديتهم بغداد شارعاً معاصراً وجميلاً، وفي وقت قياسي، وضمن ظروف، معروفة للجميع، بشدة وطأتها وقساوتها و..عبثيتها!


صحيح كان يمكن أن يكون العمل في شارع حيفا، أكثر مهنية، وأكثر حداثة، وان تكون القرارات المتخذة أكثر صوابية. (يلجأ معاذ لتذكيرنا في ص. 175-176، بما تم من إجراءات في تجربة تعمير ميدان بوتسدامر بلاتس/ ببرلين، التي كفلت نجاحه المهني). لكن مع هذا، فإن ما اجترحه الفريق الاستشاري، ومعاذ الآلوسي نفسه، وكذلك رفعة الجادرجي وآخرون، سيظل يعتبر عملاً، أراه، رائداً، وعلى قدر عالٍ من المهنية، اذ أضاف نكهة طازجة الى تخطيط بغداد، وانتشل نسيجها العمراني من الفوضى العارمة، التي غُرقت به منذ عقود. فضلاً على إن ظهور شارع حيفا بهيئته الجديدة والحداثية، كحدث تخطيطي هام، سيكون بمقدوره أن يؤثر ايجابياً، على أعمال تجديد البنى المبنية القديمة في أحياء أخرى في المدينة وفي العراق كافة لاحقاً. وفي هذا الصدد يكتب معاذ ".. إن هذا الفريق على علم بأن ما سيتم في شارع حيفا، سيكون مثالاً يحتذى به في تطوير المناطق المختلفة من بغداد" (ص. 225).


تبقى تبعات "أطروحة" توظيف ذلك العمل سياسياً، وكيفية النأي بالنفس بعيدا، عن "تهمة" المساهمة في تمجيد الديكتاتورية عن طريق تنفيذ مشاريعها البنائية. وهي أطروحة يتعين النظر إليها مهنياً، في ضوء نتائجها (اياً تكن تلك النتائج) على النسيج الحضري البغدادي. مع الأخذ في نظر الاعتبار، بان حضور <العمارة> في المشهد (وفي الخطاب أيضاً)، كان، في الغالب الأعم، يعزى سببه إلى قرار سياسي. فالعمارة، بخلاف ما هو متعارف عنها، لا "يخلقها" المعماريون، وإنما ..السياسيون! والإشكالية تكمن، هنا، في كيفية "ترويض" رغبة السياسي، من قبل المعمار، لجهة تحقيق منتج عمراني ومعماري رصينيّن. يشير معاذ إلى تلك الهواجس مسجلاً في كتابه ما يأتي: "أخبرني رفعة (الجادرجي) بأنه مكلف من أعلى المراجع بتجميل وتنظيم بغداد خلال السنتين القادمتين لاستقبال زعماء الدول غير المنحازة.. شارع حيفا أحد هذه المشاريع الواجب أعمارها، كونه في قلب العاصمة. وقد ترك هو وشارع الجمهورية على حالهما. والإثنان يعّدان... مثالاً حياً على سلوك السياسيين اللامبالي إزاء مدنهم. وهذا المؤتمر السياسي ذكرهم بإعادة النظر بإهمالهم الطويل" (ص. 159). وهو وأن قبل المهمة المكلف بها، فانه سعى وراء تحقيق ما يؤمن به، وما تعلمه من أساتذته في هذا المجال ".. في تجربة الكرخ، تأكد لي أن إبقاء الموروث على ما هو عليه بمتحفية مجردة عملية غير معقولة وغير مقبولة، وبالتأكيد غير مجدية. إن الحفاظ عليه يجب أن تتحول إلى عملية بث روح جديدة في نمطها. فعملية الإحياء لا تتم إلا بالتدوير.." (ص. 200).


أعترف بأني أسهبت كثيراً في الكلام عن هذا الموضوع، المتخم باشكالياته. لكني اعرف إن أسهابي مسوغ لجهة تنوع تلك الإشكاليات، التي أحيطت بهذا العمل وتأويلات البعض لها. ومعاذ يعي أهمية هذا الموضوع أيضاً. من هنا، في رأيي، تنبع الحيثيات المقنعة لطول هذه الفاصلة/ المرحلة من متن الكتاب، ومن حياة المعمار. انه، في الواقع، توثيق لمناخات متعددة الهوى والاتجاهات: إذ يختلط بها المهني بالسياسي، والثقافي بالشعبوي، والخوف بالشجاعة غير المنتظرة، ورعب أجهزة " الأخ الأكبر" والسخرية منها، ناهيك عن اختلاط الجد بالهزل، الذي لا يسلم من تبعاته حتى هو نفسه شخصياً. كل ذلك يسرده معاذ الآلوسي بصراحة، وبالتقاطات جدا ذكية. يندر أن قرأت نصاً معمارياً بهذه الشمولية والجرأة، وبهذه المتعة، وبتلك التفاصيل (غير المملة قطعاً!)، التي سجلها معاذ في فصل "شارع حيفا- بغداد".


لم اقصد، في مقالي هذا، أن اكتب "نصاً على نص". رغم أن مواضيع نصوص كتاب "نوستوس" تغوي المتلقي بالتعليق والتعقيب، لجهة آنية المواضيع المثارة وأهميتها في الخطاب المعماري. لكني مع هذا، أود ان اعلق، ولو بسرعة، على ما جاء في فاصلة "ضمن الدرب خارج الكرخ: مدينة الثورة". والأخيرة، هي ذاتها "بعد أن باتت عشوائية، هي مدينة صدام، ولاحقاً مدينة الصدر، وسميت لفترة قصيرة في عام 1963 "بمدينة الرافدين" (ص.269). عن هذه المدينة وإشكالياتها ومشاكلها المتنوعة، يتحدث معاذ الآلوسي، هو الذي عمل فيها بالستينات، وتجدد العمل معها في الثمانينات. وفي كل الأوقات، كان هاجسه المهني، كيف يمكن تقديم خدمة مناسبة الى تلك الجموع البشرية المكتظة في عشوائيتها، انطلاقاً من مبدئية يؤمن بها، بان "هناك منطقة لقاء بين ما تتوخاه أنت وترغبه، كمخطط ومحفز بشري، وما تمليه المصالح الإنسانية العامة" (ص. 281).


"تموج" (تغرق!) مدينة الصدر "الثورة إياها"، بمشاكل جمة: إسكانية واجتماعية وثقافية وصحية وترفيهية الخ.. لكن مشاكلها تلك، لا أحد معني بها جدياً، و"استغلت في التسابق السياسي السائد في العراق الجديد، والسابق له، وما قبل السابق له" (ص. 169). سأتغاضى، في هذه العجالة، الحديث عن مشاكل المدينة، وأشير الى ما ذكره معاذ الآلوسي، عن العلة الأساسية المغذية لديمومة تلك المشاكل، وهي هجرة سكنة الريف الى المدن، وأتوقف عند ما يقوله إن " الخلل الذي أحدثته الهجرة من الريف، قد يتساوى في ضرره مع الخلل الذي أحدثته الحروب...الريف منسي منذ فترة طويلة إلى يومنا هذا.." (ص. 276). وهذا بالذات، ما أود الإشارة اليه. لا يعرف السياسيون القدامى والجدد، أصحاب القرار، طبيعة الكارثة وحجمها التي يعيشها الريف. وكارثة بهذا النوع ، لا ينفع فيها دعوات ساذجة، وحلول شعبوية، او إجراءات سطحية. يتعين التعاطي معها بجدية عالية، وبمهنية عالية، وبتعاون دولي كفوء. من دون ذلك، ستظل المشكلة الريفية تنشر "ألغامها" في كل الأنحاء: في المدن، وفي الصحراء وفي الجبل وفي ..الريف أيضاً. وأنا هنا، مع معاذ، أناشد زملائي المهنيين، بايلاء أهمية خاصة لهذه المشكلة، وإيجاد الحلول الناجعة لها. " لم نر سلطة أو جهة مسؤولة تأخذ على عاتقها وضع مخطط هيكلي استراتيجي لمنطقة ريفية.." يكتب معاذ الآلوسي في ص. 276-277 . إني أتوجه إليهم بالعمل الآن، من دون انتظار بان أحدا من المسؤولين الحاليين، سيبادر إلى دعوة لأجل إيجاد الحلول، لأنهم وبكل بساطة، ليسوا فقط غير معنيين بذلك، كما تبين للجميع طيلة سنوات الفترة الماضية، وإنما لا يقدرّوا، بحكم نوعية ذهنيتهم وثقافتهم، فداحة المشكلة المخيمة بظلالها على المشهد الريفي كله! وإلا كيف يمكن تفسير مثل هذا التغييب الشامل لهذا المشكل، الذي يعاني منه الملايين، عن "أجندات" القضايا المتنوعة، التي بتعاطي معها أصحاب القرار؟!


.. وأخيراً

يظل كتاب "نوستوس، حكاية شارع في بغداد" لمعاذ الآلوسي، كتاباً عن شهادة مثقف عراقي تنضح شعوراً من الحنين، واللهفة، والتوق الى الأمكنة الأثيرة الأولى، واستذكار ما تم انجازه مهنياً لرفعة وتقدم بلد، لم يكن أحد يخطر في باله، إن مهنييه ومثقفيه الذين عملوا له بإخلاص، سيكون مصيرهم الشتات والتيه. في كتاب "نوستوس" يستخدم معاذ كلمات معينة، هي جزء من مفردات "لكسيكونية" Lexicon متداولة في الحكي العراقي، لخصوصيتها و"طرافتها". فهو يسمي صديقه وزميله في المكتب فيصل الجبوري بـ <عضيدي>، وولده البكر <وحيدي>، ويستعمل تراكيب تشي بسيميائية مفهومة لدى كثر من العراقيين مثل "نذبحها على قبلة" و"قلافة"، و"روحه بلا ردة"، و"الزوج المكرود"، و"مهدود الحيل" وغيرها العبارات. إن مثل تلك التعابير لها وقعها الخاص والمحبب على المغتربين و"الغرباء" العراقيين. وتغدو عملية انتقائها وتكرار تداولها، بمثابة تحفيز للذاكرة، هي التي تسعى وراء "اختلاق" صلات متنوعة مع أمكنة "البئر" الأولى، لتظل الأخيرة حاضرة دوماً فيها. بيد أن الأمر المقلق (والمخيف ايضا)، إن تكون، ممارسة اصطفاء المفردات اياها، صنواً لإستمرار غربة دائمية ومستدامة، يغدو الوطن بها بلدا عصياً على الاستعادة والاستذكار؛ ما يجعلنا نتساءل، فيما إذا كانت ثمة نهاية لذلك الوجع الأبدي، وخاتمة لمثل ذلك الحنين "النوستوسوي"؛ الذي تحدث عنه معاذ، بألم وبمرارة، والذي يشعر به كثر من "الغرباء" المقيمين خارج وطنهم؟! تشاء الصدف، أن تكون "رمال" اسماً للدار الناشرة لكتاب "نوستوس". أتكون تلك الخاتمة "المرتجاة" مجرد أمل "تنشره" الرمال؟! شخصيا، يورقني هذا، كما تمنيت باني لن آتي على سيرة هذا. راجيا من قرائي الكرام، محو العبارة الأخيرة، والاكتفاء بقراءة "نوستوس" معاذ الآلوسي، والتماهي معه في استشعار "وطانه"، وشغفه بعمله ومهنته المعمارية!.


قراءة ممتعة.

 

*مدرسة العمارة/ الأكاديمية الملكية الدانمركية للفنون

 

د. خالد السلطاني

*read article

Read more

ALRIYADH
Nostos نوستوس

ALRIYADH

بغدﺍد ﻭ معاﺫ ﺍلآلوسي "نوستوس" كلمة يونانية قديمة تعني الحنين، ومعاذ الآلوسي يضعها عنوانا لكتاب أول يصدره، ثم يستأنف العنوان "حكاية عن شارع في بغداد" نشرته دار الرمال في قبرص حيث يقيم المعماري العرا...

Read more
AVIATION
History in the Arab Skies

AVIATION

Surprising, Revealing, Passion for flying. Imagine you can teleport yourself back to the year 1922 and then imagine that you are flying over 500 miles of unending sand from Cairo to Baghdad withou...

Read more