AL JAZEERA
حارة اليهود في القدس
لا شك في أن الحديث عن مدينة القدس المحتلة، ناهيك عن الحديث عن فلسطين، تشوبه الكثير من العواطف الوطنية والقومية، وبالطبع الدينية أيضًا. كتاب عدنان عبد الرزاق يؤرخ لتاريخ مدينة من خلال متابعة قسم منها هو ما يعرف باسم "حارة اليهود" الواقعة الآن في جنوبي المدينة قرب الحرم الشريف الذي يضم كلاً من مسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى.
الكتاب
المؤلف، باحث وأكاديمي فلسطيني عمل طويلاً في قسم فلسطين بالأمم المتحدة في نيويورك ومحاضرًا في جامعات أميركية عدة، إضافة إلى الجامعة العبرية وجامعة بيت لحم، قسم كتابه إلى جزأين أثراهما بكثير من الصور الدالة وذات العلاقة المباشرة بالموضوع، إضافة إلى سجلات وبيانات عقارية، وهو ما منح الكتاب طبيعة تاريخية علمية.
الحديث في ما يسمى حارة اليهود، وبالتالي في مدينة القدس، يستدعي العودة إلى التاريخ، كما هو حقًا، وهذه إحدى أصعب المهام التي تواجه المؤرخ العلمي. الكاتب، خصص الجزء الأول من المؤلف الذي منحه اسم: البحث في المصادر والوثائق العلمية وعرض الأدلة ذات الصلة بالواقع التاريخي والسياسي لليهود وحارتهم، للخوض في مواضيع تاريخية عديدة من المفيد إعلام القارئ بها لأنها تلخص ذلك القسم من العمل.
هذا قاده إلى البحث في الموضوع عبر سبعة فصول هي: أسطورة تسمية حارة اليهود/ الحي اليهودي؛ الوجود اليهودي في القدس-نبذة تاريخية؛ التغيرات السياسية منذ أواسط القرن التاسع عشر؛ موقع حارة اليهود؛ حارة اليهود لم تتواصل عبر التاريخ بحائط البراق قط؛ حائط البراق ليس الحائط الغربي للهيكل؛ وسابعًا وأخيرًا: بناء حارة موسعة لليهود فرضها الاحتلال.
الحقائق التاريخية
يحوي هذا الجزء بأقسامه العديدة الكثير من المعلومات التاريخية المهمة، وفي مقدمتها أن تقسيم المدينة إداريًا إلى أحياء مسيحية ومسلمة وأرمينية ويهودية قام به المستعمر البريطاني في القرن الماضي، من منظور أن احتلاله فلسطين كان هدفه الأساس تأسيس دولة لليهود في فلسطين، وبالتالي إيجاد الذرائع التاريخية على الأرض، إضافة إلى خرافات التوراة والتلمود، التي تسوغ ولادة مدينة جديدة أساسها مجموعة أحداث قيل إنها حدثت قبل ألف ألف عام!
المهم أن المؤلف يذكر القارئ بأن هذه الحارة كان اسمها حارة الشرف/ محلة الشرف، وكانت تعرف قديمًا بحارة الأكراد وحارة العلم، وضمت أحياءً عديدة من حارة الصليبيين وحارة الحيادرة وحارة الريشة.. إلخ. هنا المؤلف لا يعتمد على المراجع التاريخية فقط وإنما يستعين أيضًا بوثائق المحاكم الشرعية التي هي سجلات تاريخية وصالحة تمامًا لرسم تاريخ المدينة حيث تظهر ملكية المسلمين في تلك الحارة العتيدة.
من الحقائق التاريخية المثبتة كتابيًا عام 1193 إفتاء حاكم دمشق الأفضل بن الفاتح صلاح الدين بأن الأرض المحيطة بحائط البراق، المشار إليه في المراجع الصهيونية، أيًا كانت لغتها، باسم حائط المبكى، وقف إسلامي (ص 56)، وبالتالي لا يحق لأي سلطة زمنية التصرف فيه.
من الأمور الأخرى المثيرة قول الكتاب، اعتمادًا على تقرير لجنة شو لعام 1929، المذكور في الكتاب الأبيض، أن وعد بلفور حرض اليهود على تقديم ادعاءات بحقوق غير قائمة، ويشدد على تأكيده أن الحائط ملك قانوني للمسلمين (ص 58).
يعود المؤلف مرات إلى التاريخ القديم ليستشهد بكتابات تؤكد أن حارة اليهود كانت في القرن الحادي عشر تقع شمال الحرم الشريف، ويضع الخريطة ذات العلاقة (ص 72) مما يظهر التباسًا شديدًا لدى المتمسكين بمقولة الهيكل وما إلى ذلك من أساطير، خصوصًا موقعه. بل إنه يورد نصوصًا قديمة تؤكد أن حائط البراق، الذي يدعى أنه حائط المبكى، أي من بقايا معبد حرد العربي، واسمه باليونانية هيرودس، ما هو إلا حائط قلعة أنطونيا. هذا القسم أجده مثيرًا للاهتمام لأني رغم بحوثي المستمرة لم يسبق لي أن عرفت بها.
المؤلف يخلص إلى نتائج بدهية استقاها من كثير من المراجع العلمية المعتبرة وفي مقدمتها كتاب عالمة الأنثروبولوجيا نادية أبو الحاج صاحبة المؤلف الإنجليزي "حقائق على الأرض"، والمحاضرة في جامعة ديوك وفي جامعات غربية أخرى، حيث كتبت، ملخصة الموضوع: إن البناء اليهودي في حارة اليهود كان يتطلب إعادة صوغ التاريخ كأساس للحاضر، وجاء التاريخ ليصبح أرضية قانونية وثقافية لتثبيت الحق الوطني التاريخي في هذه البقعة، والذي عبر عنه البناء المعماري والهيكلي والذوق البنائي والتخطيط في إعادة بناء حارة اليهود، وهي محاولة لتثبيت معنى هذه البقعة واحتوائها وإعطائها صفة وقف ثابت لهم على حساب التعددية.
كما يستشهد المؤلف بكتابات الأكاديمي غابرييل بتسبرغ الذي كتب أن الحركة الصهيونية شبيهة جدًا بالحركة الاستيطانية الكولونيالية للغرب في ما يتعلق بإخماد أصوات الشعوب المستهدفة.. وهكذا اخترعت قصة أو حكاية ذاتية مميزة لا صلة لها بأهل الأرض الحقيقيين والحاجة إلى إنقاذ الأرض منهم.. هي أسطورة صهيونية ذات ثلاث تشعبات أولها التنكر لحياة المهجر؛ والعودة إلى إسرائيل؛ والعودة بالتاريخ إلى الوراء.
الحقائق بالأرقام يوردها المؤرخ الفلسطيني الفذ عبد اللطيف الطيباوي صاحب المؤلفات العديدة عن تاريخ القضية الفلسطينية، حيث يؤكد أن إسرائيل صادرت بعد عام 1967 ما مجموعه 700 بيت، منها 105 ملكها يهود قبل عام 1948، و111 بيتًا استعمال عام، و354 وقفًا إسلاميًا، و130 بيتًا عربيًا.
وفي يوم 11 يونيو/حزيران، أي بعد أقل من أسبوع على احتلالها بقية فلسطين، الانتداب، بدأت قوات العدو بهدم حارة المغاربة، بعضها على رؤوس أصحابها (ص 101-102)، والتي كان الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين أنشأها للمرابطين من بلاد المغرب العربي، عندما كان واليًا على دمشق بين عامي 589 و595 للهجرة، بعدما منح سكانها ثلاث ساعات لإخلاء منازلهم؛ ومن ضمن ما هدمته كان مسجدا البراق والأفضلي وزاويتاهما. كما صادرت 116 دونما من أراض العرب جنوبي المدينة شملت 700 بناء و1048 شقة سكنية و437 دكانًا، مما وسع من مساحة الحارة المزعومة من 20 دونما إلى 120 دونما.
الحقائق الميدانية
في الجزء الثاني من الكتاب، الحقاق الميدانية: توسيع حارة اليهود على حساب الحارات العربية والاستيلاء على عقاراتها، يوثق المؤلف عملية اغتصاب العدو المحتل الأراضي والممتلكات العربية الفلسطينية في حارة اليهود موردًا تفاصل مهمة وأرقامًا موثقة من وثائق المحاكم الشرعية عن ملكية العقارات وعددها وأسماء العائلات المالكة لها وأسمائها، مثل أبو مدين والخالدي وآل أبو السعود الذين أتى منهم مفتي الشافعية في فلسطين والحاج أمين الحسيني اليمني، وغيرهم الكثيرين، ليثبت في نهاية المطاف أن مجمل أملاك اليهود في أحواض المدينة كان أقل من 19% من الحارة.
خلاصة
الكتاب مهم لأنه يتعرض بالتفصيلات غير المملة لحقائق عن وضع مدينة القدس منذ العهد العربي والعربي الإسلامي الذي استمر قرابة ألفي عام، مع انقطاع قصير إبان حروب الفرنجة. إنه يضع المسألة في الإطار الصحيح ويفند ادعاءات الصهيوني المغتصب الذي لا يملك سوى الاستعانة بتاريخ وهمي أثبتت أبحاثه الأثرية هو عدم صحتها، وتزوير الحقائق.
والكتاب مهم لأنه يوضح للقراء العرب تاريخ المدينة العربي، الإسلامي المسيحي، على أرضية حقائق مثبتة تاريخية ووثائق لا يرقى الشك إليها.
إننا نقوم الكتاب إيجابيًا ونوصي القراء العرب باقتنائه، لكن هذا لا يمنعنا من التذكير ببعض السلبيات الواردة فيه، والمهم الإشارة إلى بعضها، مع أنها لم تؤثر في مسار البحث وهدفه. ومن هذه السلبيات قول الكاتب إن اليهود سكنوا القدس 1135 عامًا، واستخدامه تعبير عودة اليهود وكذلك الكلام عن الحقب اليبوسية والكنعانية في تاريخ المدينة وهي لا وجود لها إلا في التوراة، والقول إن الأيوبيين احتلوا القدس، إضافة إلى وجوب نبذ استخدام موسوعة الويكيبيديا مرجعًا حيث تتوافر مراجع علمية كافية.
عرض/ زياد منى
المصدر:الجزيرة