AL ITTIHAD
حنين المبدع العراقي في الشتات
"نوستوس" عنوان كتاب المهندس المعماري العراقي معاذ الآلوسي. وكلمة "نوستوس" إغريقية الأصل، ومنها اشتقت "النوستالجيا" المستخدمة في لغات عدة، وتعني "الوِطان بكلمة عربية عبقرية واحدة" تلخص حسب الآلوسي "التناوب ما بين تغربي وحنيني، الخروج والعودة من دون أمل بالعودة، إنه يضم اسم مسقط رأسي وحركة خروجي منه وحنيني إليه". وهذا موضوع ندوة حوارية عقدت معه أول من أمس في الجامعة الأميركية في بيروت "حول تفاعل الحنو والذاكرة بالعمارة وبالتفكر بكينونة المكان والزمان".
والعراقي المبدع في الشتات تفضحه إبداعاته، حيث تتلاشى كل قسوة تماسكه، فيركع على أرض "نوستوس". ومَنْ غيرُ المحب، بل العاشق الموّله بوطنه وأهله يدرك وجع الغربة. "المثير في الأمر أن سبب الغربة والتغرب نتج عن محاولة التشبث بالانتماء. هنا يصبح الوطن ذكرى وانتماءً وليس بقعة جغرافية، وطن يتسرب من تلافيف الذاكرة عساه أن لا يحتضر". ولن يحتضر في ذاكرة الآلوسي عمل عقب تخرجه مباشرة من الجامعة في مشاريع الإسكان الموزعة في جميع أنحاء العراق، تَعلّم خلالها لغة جديدة غريبة عن أذنيه. "لغة خليط من العربي والإنجليزي المحوّر المُعرّق والفارسي والهندي، لغة البناء لغة متداولة إلى يومنا هذا من قبل العاملين في مواقع الإنشاء والتشييد تختلف عن تلك المتداولة في مواقع البناء في بيروت والخليج التي كان عليه التأقلم معها عند عمله في مشاريعها.
وشتات الآلوسي "هَجْوَله" حسب تعبيره العراقي، فهو ليس مغترباً مقيماً في الخارج بل في عملية انتقال مستمرة، حيث "الهجرة والانتقال باتا جزءاً من توقعاتنا... حروب تلي حروباً، احتلالات تلي احتلالات، والتأقلم أصبح روتيناً. الأصعب هو الفراق بعد تأسيس صداقات جديدة". مكاتب بكامل عدتها من مهندسين ورسامين ومصورين وسكرتيرات، تؤسس وتغلق، ويعاد تأسيسها في بيروت، والكويت، وأثينا، وقبرص. "تنوعت المشاريع وكثرت: سفارة دولة الإمارات في مسقط، وسفارتا الكويت في البحرين والخرطوم، وسفارة قطر في مسقط، ومشروع ورش وزارة الكهرباء في الكويت. و"مشاريع كثيرة منها ما يستحق التوقف عندها، تعبِّر عن معتقدي المهني بوضوح، أخص منها بناية المصرف المركزي في صلالة، ومركز الدراسات المصرفية في الكويت، ومسابقات بلدية الدمام، وبلدية أبوظبي، وجامع عائلة السلطان في روي في سلطنة عمان، وأبنية جمعة الماجد في الشارقة، ومعارض الفطيم في دبي، والمركز الثقافي في صلالة". وفي دبي في بداية الثورة العمرانية بناية الفطيم وجمعة الماجد، والبنك العربي الأفريقي على الخور في ديرة.
و"وِطانُ" الآلوسي حنين المبدع الذي يقضى العمر هارباً بإبداعاته من الوطن وإليه، نوستالجيا متشظية كألعاب نارية تقدح بذاكرات سومرية وبابلية وآشورية وعباسية، وبالحنين للعمران المُنتَج بين يديه، ولساكنيه. حنين يشدّ معمار الآلوسي إلى الأعلى ثم يُقوِّسه حول نفسه منكفئاً نحو الأرض، نحو الوطن. والقوس، الذي يسميه العراقيون "الطاق"، يقول عنه المثل الهندي: "القوس لا ينام قط"، وهو المفردة المعمارية التي لا تنام في أكثر أعمال الآلوسي، إيقونته، حسب الناقد الأكاديمي المعماري خالد السلطاني في بحثه الشيّق بمناسبة سبعينية الآلوسي. وفي كتاب عنه عنوانه "يوميات بصرية لمعمار عربي" تحدث الأديب والناقد الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا عن اقتران العرب "في أذهان الناس اقتراناً وثيقاً بعمارة الأقواس". وأسَرَت جبرا القوة العاطفية "في الخط الذي يتصاعد من الأرض وينحني مع السماء ليسقط ثانية إلى الأرض. وإذ يتكاثر هذا الشكل فإن وقعه في الغالب أشبه بالموسيقى التي تملأ الصدر بجذل أو انشراح فجائي يكاد يعجز عنه أي تحليل".
و"المجتمع البشري كالقوس يقيه من الانهيار الضغط المتبادل لأجزائه"، حسب الفيلسوف الروماني سينيكا. وعَمَلُ الآلوسي في مشروع "شارع حيفا" في بغداد قوسٌ مشدود على حافة الانهيار. فالحي المخصص لسكن الأكاديميين أنشئ خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية، واستُدعي الآلوسي من شتاته اليوناني لتخطيط وتصميم وبرمجة تنفيذ المشروع في مدة أقصاها سنتان. وبغداد بالنسبة له "المدينة الرَحَم" وحنينه إليها هو الحنين المستحيل للعودة إلى الرَحَم. أهم وأبدع ما في كلامه عن عمله فيها، ليس التنظيري، أو التوصيفي، بل مجرياته المتدفقة بغداديةً مشبوبةً في كتابه الذي يحمل عنواناً إضافياً "حكاية شارع في بغداد". وكالأقواس تنكفئ جُمَلُ الآلوسي على نفسها في تقاطعات واستطرادات واستدراكات تحيط بالمكان والزمان المعماريين عبر الألفيات والحضارات. هذه الموَّرثة الجينية، أو الجِنة، إذا شئنا، يتوارثها البغداديون فتجعل دردشتهم شهرزادية اللغة والتركيب والمعنى.
و"المعمار في بيئته سلطان". من هنا كان القرار الأهم الذي اتخذه الآلوسي "هو أن لا أحقق في وطني إلا ما يدهش، ويجترح إزاحة، ويضيف ويبدع... ومقاومة وسطية سطحية لا تقلق ولا تثير أسئلة". ويعترف الآلوسي بتواضع منجزه المعماري في بغداد. "في هذا السياق هناك تجارب قليلة، ليس إلا دار الصليخ (المكعب)، ودارة سيف الدين، ودار عبد الوهاب الصافي، ومستشفى الوزيرية، ومبنى أيا". و"المكعب" في الصليخ منزله الشخصي مبني بمواد محلية صرف. الطابوق والخشب وسكك حديد، لا مرمر ولا ألمنيوم. "تلاعب بالمواد المحلية واستعمالها بأقصى احتمالاتها الأستاطيكية. تجارب جديدة في التسقيف والعقد بالطابوق، فراندا خشبية معلقة فوق دجلة". المكعب بطوابق ثلاثة، وجدران حملت رسوم ومنحوتات أصدقائه الفنانين، وحديقة داخلية مع ستة كاليريهات لمزروعات معلقة مقسمة على ثلاثة طوابق من كل جانب، و"كانت الضربة في المكعب" تعيين مركزه في ثلاثية أبعاد تتكون من تلاقي أشعة شمس ساقطة من ثلاث فتحات على شكل أهرامات مدببة، كل واحدة مائلة بزاوية تتيح الالتقاء في مركز المكعب، وتحاكي فتحات سقوف أسواق بغداد المعقودة والعاملة بشكل مزاول لقياس الوقت. لم يسكن الآلوسي في مكعبه سوى ستة أشهر من عام 1989، وبعد الاحتلال اقتحمه الجنود الأميركيون مرتين، وحطموا بابه ومقتنياته الفنية، ساخطين لعدم عثورهم على أسلحة كانت تقاومهم بضراوة في شارع حيفا.
و"الإنسان يتعلم ولا يتعلم، هناك لذة التوقع ثم التوجع ثانيةً والتألم القاسي في الفراق والهجرة ثانية. الجميل في كل هذا هو تخزين وإثراء ذاكرة جديدة فقط، صفحات جديدة لا تقدر بثمن ولا تثمن نقتات عليها في تغرّبنا و(هجولتنا) عندما تتحول الحياة كلها إلى شوق نحو حيوات جميلة خلاقة". هكذا "وِطان" الآلوسي بين القوس والطابوق، كالمعماري الأميركي لويس كانْ: "إذا فكّرت بالطابوق، على سبيل المثال وتقول طابوق... ماذا تريد يا طابوق؟، يقول لك الطابوق: أنا أحب القوس. وإذا أردت أن تقول للطابوق: اسمعْ، الطابوق مُكلِف، ويمكنني أن أفرش حساء الإسمنت فوقك... ما رأيك بذلك يا طابوق؟ يقول الطابوق: أنا أحب القوس".
Review by
محمد عارف
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا
Al Ittihad Newspaper - جريدة الاتحاد
Abu Dhbai, UAE